فصل: فَصْلٌ: شَرَائِطُ لُزُومِ الْبَيْعِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ وَنَفَاذِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: في الْمُوَاضَعَةِ:

وَأَمَّا الْمُوَاضَعَةُ فَهِيَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ نُقْصَانِ شَيْءٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ، وَيُعْتَبَرُ لَهَا مِنْ الشَّرَائِطِ وَالْأَحْكَامِ مَا يُعْتَبَرُ لِلْمُرَابَحَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ، وَالْأَصْلُ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ فِي الْمُوَاضَعَةِ أَنْ يُضَمَّ قَدْرُ الْوَضِيعَةِ إلَى رَأْسِ الْمَالِ ثُمَّ يُطْرَحُ مِنْهُ فَمَا بَقِيَ بَعْدَ الطَّرْحِ فَهُوَ الثَّمَنُ مِثَالُهُ إذَا قَالَ: اشْتَرَيْتُ هَذَا بِعَشَرَةٍ وَبِعْتُكَ بِوَضِيعَةِ دَهٍ يازده فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ الثَّمَنَ أَنَّهُ كَمْ هُوَ فَسَبِيلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ دِرْهَمٍ مِنْ الْعَشَرَةِ الَّتِي هِيَ رَأْسُ الْمَالِ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا فَيَكُونُ الْكُلُّ أَحَدَ عَشَرَ، اطْرَحْ مِنْهُمَا دِرْهَمًا يَكُونُ الثَّمَنُ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ وَجُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ تَجْرِي مَسَائِلُ الْمُوَاضَعَةِ وَاَللَّهُ الْمُوفَقُ لِلصَّوَابِ.

.فَصْلٌ: شَرَائِطُ لُزُومِ الْبَيْعِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ وَنَفَاذِهِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ لُزُومِ الْبَيْعِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ وَنَفَاذِهِ وَصِحَّتِهِ فَوَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْ خِيَارَاتٍ أَرْبَعَةٍ خِيَارِ التَّعْيِينِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَلَا يَلْزَمُ مَعَ أَحَدِ هَذِهِ الْخِيَارَاتِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ افْتِرَاقُ الْعَاقِدَيْنِ مَعَ الْخُلُوِّ عَنْ الْخِيَارَيْنِ وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ وَخِيَارُ الْعَيْبِ شَرْطٌ أَيْضًا وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ ثَابِتٌ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَبِيعُ شَيْئًا وَيَشْتَرِي ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَنْدَمُ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ بِالْفَسْخِ فَكَانَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ بَابِ النَّظَرِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ.
(وَلَنَا) ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} أَبَاحَ اللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْأَكْلَ بِالتِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ التَّفَرُّقِ عَنْ مَكَانِ الْعَقْدِ، وَعِنْدَهُ إذَا فَسَخَ أَحَدُهُمَا الْعَقْدَ فِي الْمَجْلِسِ لَا يُبَاحُ الْأَكْلُ فَكَانَ ظَاهِرُ النَّصِّ حُجَّةً عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ صَدَرَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ، وَالْعَقْدُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ فِي الْحَالِ فَالْفَسْخُ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي الْعَقْدِ الثَّابِتِ بِتَرَاضِيهِمَا أَوْ فِي حُكْمِهِ بِالرَّفْعِ وَالْإِبْطَالِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا لَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ وَالْإِقَالَةِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ كَذَا هَذَا.
(وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَإِنْ ثَبَتَ مَعَ كَوْنِهِ فِي حَدِّ الْآحَادِ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْكِتَابِ، فَالْخِيَارُ الْمَذْكُورُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى خِيَارِ الرُّجُوعِ وَالْقَبُولِ مَا دَامَا فِي التَّبَايُعِ، وَهُوَ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: بِعْتُ مِنْكَ كَذَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَقُلْ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ لَا يَقْبَلَ أَيْضًا، وَإِذَا قَالَ: الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ مِنْكَ بِكَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَقُلْ الْبَائِعُ: بِعْتُ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ لَا يَقْبَلَ أَيْضًا، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّأْوِيلِ لِلْخَبَرِ نَقَلَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنْ بَيْعِهِمَا» حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ الْبِيَاعَاتِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ الْبِيَاعَاتِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا.
فَأَمَّا الْبِيَاعَاتُ الْمَكْرُوهَةُ:
(فَمِنْهَا) التَّفْرِيقُ بَيْنَ الرَّقِيقِ فِي الْبَيْعِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُولَهُ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا» وَالتَّفَرُّقُ بَيْنَهُمَا تَوْلِيهٌ فَكَانَ مَنْهِيًّا.
وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى امْرَأَةً وَالِهَةً فِي السَّبْيِ فَسَأَلَ عَنْ شَأْنِهَا فَقِيلَ: قَدْ بِيعَ وَلَدُهَا فَأَمَرَ بِالرَّدِّ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْوَعِيدِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِمْ السَّبْيُ وَالتَّفْرِيقُ حَتَّى يَبْلُغَ الْغُلَامُ وَتَحِيضَ الْجَارِيَةُ وَنَهَى عَنْ التَّفْرِيقِ فِي حَالِ الصِّغَرِ».
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَهَبَ مِنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غُلَامَيْنِ صَغِيرَيْنِ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا فَقَالَ: بِعْتُ أَحَدَهُمَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: بِعْهُمَا أَوْ رُدَّ»، وَالْأَمْرُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْعِ أَوْ رَدِّ الْبَيْعِ فِيهِمَا دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّفْرِيق؛ وَلِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ نَوْعُ إضْرَارٍ بِهِمَا؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ يَنْتَفِعُ بِشُفْعَةِ الْكَبِيرِ وَيَسْكُنُ إلَيْهِ وَالْكَبِيرُ يَسْتَأْنِسُ بِالصَّغِيرِ، وَذَا يَفُوتُ بِالتَّفْرِيقِ فَيَلْحَقُهُمَا الْوَحْشَةُ فَكَانَ التَّفْرِيقُ إضْرَارًا بِهِمَا بِإِلْحَاقِ الْوَحْشَةِ، وَكَذَا بَيْنَ الصَّغِيرَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا يَأْتَلِفَانِ وَيَسْكُنُ قَلْبُ أَحَدِهِمَا بِصَاحِبِهِ فَكَانَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا إيحَاشًا بِهِمَا فَكُرِهَ وَلِأَنَّ الصِّبَا مِنْ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَفِي التَّفْرِيقِ تَرْكُ الرَّحْمَةِ فَكَانَ مَكْرُوهًا.
ثُمَّ الْكَلَامُ فِي كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْكَرَاهَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ أَنَّهُ جَائِزٌ أَمْ لَا.
(أَمَّا) شَرَائِطُ الْكَرَاهَةِ.
(فَمِنْهَا) صِغَرُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَغِيرًا أَوْ يَكُونَا صَغِيرَيْنِ فَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ لَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِمْ السَّبْيُ وَالتَّفْرِيقُ حَتَّى يَبْلُغَ الْغُلَامُ وَتَحِيضَ الْجَارِيَةُ» مَدَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ النَّهْيَ عَنْ التَّفْرِيقِ إلَى غَايَةِ الْبُلُوغِ فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْكَرَاهَةِ بِحَالَةِ الصِّغَرِ وَزَوَالِهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ وَلِأَنَّ الْكَرَاهَةَ مَعْلُولَةٌ بِالْإِضْرَارِ بِزَوَالِ الِاسْتِئْنَاسِ وَالشَّفَقَةِ وَتَرْكِ الرَّحِمِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِحَالَةِ الصِّغَرِ.
،.
(وَمِنْهَا) الرَّحِمُ وَهُوَ الْقَرَابَةُ فَإِنْ كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ لَمْ يُكْرَهْ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا.
،.
(وَمِنْهَا) الْمَحْرَمِيَّةُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَا ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ مُحَرِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ فَلَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ ابْنَيْ الْعَمِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ الْمُحَرِّمَةَ لِلنِّكَاحِ مُحَرِّمَةٌ الْقَطْعَ مُفْتَرِضَةٌ الْوَصْلَ فَكَانَتْ مَنْشَأَ الشَّفَقَةِ وَالْأُنْسِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْقَرَابَاتِ وَكَذَا الْمَحْرَمِيَّةُ بِدُونِ الرَّحِمِ لَا تُحَرِّمُ التَّفْرِيقَ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الشَّفَقَةِ وَالْأُنْسِ لِعَدَمِ دَلِيلِهِمَا وَهُوَ الْقَرَابَةُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَالِكُهُمَا وَاحِدًا بِأَيِّ سَبَبٍ مَلَكَهُمَا بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي مِلْكِهِ وَالْآخَرُ فِي مِلْكِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدَانِ صَغِيرَانِ أَحَدُ الْمَمْلُوكَيْنِ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ فِي مِلْكِ الْآخَرِ لَا بَأْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي التَّفْرِيقِ أَنْ يَكُونَا فِي مِلْكِ وَاحِدٍ وَإِنْ لَمْ يَجْمَعْهُمَا مِلْكُ مَالِكٍ وَاحِدٍ لَا يَقَعُ الْبَيْعُ تَفْرِيقًا؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُتَفَرِّقَيْنِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَكَذَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا فِي مِلْكِهِ وَالْآخَرُ فِي مِلْكِ مُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْكَسْبِ مُلْحَقٌ بِالْأَحْرَارِ فَاخْتَلَفَ الْمَالِكُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي مِلْكِهِ وَالْآخَرُ فِي مِلْكِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فَلَا بَأْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ الَّذِي عِنْدَهُ.
فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ فَلَمْ يُوجَدْ بِالِاجْتِمَاعِ فِي مِلْكِ مَالِكٍ وَاحِدٍ، وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُهُ لَكِنَّهُ مِلْكٌ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ فَلَمْ يُوجَدْ الِاجْتِمَاعُ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُكْرَهُ لِلْمَوْلَى أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا لِوُجُودِ الِاجْتِمَاعِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي مِلْكِهِ وَالْآخَرُ فِي مِلْكِ مُضَارِبِهِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارِبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكَ الْمُضَارِبِ لَكِنْ لَهُ حَقٌّ قَوِيٌّ فِيهِ حَتَّى جَازَ بَيْعُ الْمُضَارِبِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَبَيْعُ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ الْمُضَارِبِ اسْتِحْسَانًا فَكَانَ رَأْسِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَمْ يُوجَدْ الِاجْتِمَاعُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ.
وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا بَاعَ جَارِيَةً كَبِيرَةً عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ مَلَكَ وَلَدَهَا الصَّغِيرَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَنَّهُ يُكْرَهُ إيجَابُ الْبَيْعِ فِي الْجَارِيَةِ بِالْإِجَازَةِ أَوْ بِالتَّرْكِ حَتَّى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ بَلْ يُفْسَخُ الْبَيْعُ حَتَّى لَا يَحْصُلَ التَّفْرِيقُ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ فَكَانَتْ الْجَارِيَةُ عَلَى مِلْكِهِ فَإِذَا مَلَكَ وَلَدَهَا الصَّغِيرَ فَقَدْ اجْتَمَعَا فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ تَفْرِيقًا فَيُكْرَهُ وَلَوْ بَاعَ الْجَارِيَةَ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ مَلَكَ الْبَائِعُ وَلَدَهَا الصَّغِيرَ فِي الْمُدَّةِ فَلَا بَأْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ أَوْ يَفْسَخَ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ خُرُوجَ السِّلْعَةِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي دُخُولِهَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْمَمْلُوكَانِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَلَمْ تَكُنْ الْإِجَازَةُ تَفْرِيقًا وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَلَهَا ابْنٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا تُكْرَهُ الْإِجَازَةُ بِلَا إشْكَالٍ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لَا تَكُونُ تَفْرِيقًا بَلْ تَكُونُ جَمْعًا.
(وَأَمَّا) الْفَسْخُ فَكَذَلِكَ لَا يُكْرَهُ أَيْضًا.
(أَمَّا) عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اللَّهُ فَلَا يُشْكِلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ دُخُولَ السِّلْعَةِ فِي مِلْكِهِ عَلَى أَصْلِهِ فَلَمْ يَقَعْ الْفَسْخُ تَفْرِيقًا لِانْعِدَامِ الِاجْتِمَاعِ فِي مِلْكِهِ.
(وَأَمَّا) عِنْدَهُمَا فَالْجَارِيَةُ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ لَكِنَّ الْفَسْخَ حَقُّهُ فَالْإِجْبَارُ عَلَى الْإِجَازَةِ إبْطَالٌ لِحَقِّهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَمْلِكَهُمَا عَلَى الْكَمَالِ فَإِنْ مَلَكَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شِقْصًا مِنْهُ لَمْ يُكْرَهْ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ هاهنا لَا يَقَعُ تَفْرِيقًا مُطْلَقًا لِحُصُولِ التَّفْرِيقِ قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ عَنْ التَّفْرِيقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلًّا لِلْبَيْعِ عِنْدَ الْبَيْعِ فَإِنْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ بِالتَّدْبِيرِ أَوْ الِاسْتِيلَادِ فَلَا بَأْسَ مِنْ بَيْعِ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَفْرِيقٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ بَيْعُهُمَا جَمِيعًا فَلَوْ مُنِعَ عَنْ بَيْعِ الْآخَرِ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمَالِكُ، وَكَرَاهَةُ التَّفْرِيقِ شَرْعًا لِدَفْعِ ضَرَرٍ زَائِدٍ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُهُ بِإِلْحَاقِ ضَرَرٍ فَوْقَهُ بِالْمَالِكِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِأَحَدِهِمَا حَقٌّ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَنْ لَحِقَ أَحَدَهُمَا دَيْنٌ بِأَنْ اسْتَهْلَكَ مَالَ إنْسَانٍ أَوْ جَنَى جِنَايَةً عَلَى بَنِي آدَمَ أَوْ اشْتَرَاهُمَا رَجُلٌ فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا لَمْ يُكْرَهْ التَّفْرِيقُ بَلْ يُبَاعُ بِالدَّيْنِ وَيُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّفْرِيقِ دَفْعَ ضَرَرٍ زَائِدٍ بِضَرَرٍ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ إبْطَالُ الْحَقِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا جَنَى أَحَدُهُمَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَفْدِيَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْحَقَّيْنِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَأَنَّهُ حَسَنٌ عَقْلًا وَشَرْعًا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَاهُمَا رَجُلٌ فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا يَرُدُّهُمَا جَمِيعًا أَوْ يُمْسِكُهُمَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ رَدَّهُ خَاصَّةً تَفْرِيقٌ، وَأَنَّهُ إضْرَارٌ فَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَى مِصْرَاعَيْ بَابٍ أَوْ زَوْجَيْ خُفٍّ أَوْ نَعْلٍ ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً لِكَوْنِهِ إضْرَارًا بِالْبَائِعِ خَاصَّةً كَذَا هَذَا.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَالِكُهُمَا مُسْلِمًا فَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالِكُ حُرًّا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مَأْذُونًا عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَمْلُوكَانِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ كَافِرًا؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِكَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ مِنْ النُّصُوصِ وَالْمَعْقُولِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَمَعَهُ عَبْدَانِ صَغِيرَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا صَغِيرٌ وَالْآخَرُ كَبِيرٌ وَهُمَا ذَوَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَوْ اشْتَرَاهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي دَخَلَ مَعَهُ بِأَمَانٍ فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَلَوْ اشْتَرَاهُمَا مِنْ مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ حَرْبِيٍّ دَخَلَ بِأَمَانٍ مِنْ وِلَايَةٍ أُخْرَى لَا مِنْ وِلَايَتِهِ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدَهُمَا (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الضَّرُورَةَ دَفَعْت الْكَرَاهَةَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْتَرِ لَأَدْخَلَهُمَا دَارَ الْحَرْبِ فَيَصِيرُ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَنْعَدِمُ فِي هَذَا الْفَصْلِ؛ لِأَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِمَا وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ إلْحَاقِهِمَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَرْضَيَا بِالتَّفْرِيقِ فَإِنْ رَضِيَا لَا يُكْرَهُ بِأَنْ كَانَ الصَّبِيُّ مُرَاهِقًا وَرَضِيَ بِالْبَيْعِ وَرَضِيَتْ أُمُّهُ فَبِيعَ بِرِضَاهُمَا؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ التَّفْرِيقِ لِمَكَانِ الضَّرَرِ فَإِذَا رَضِيَا بِهِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فَلَا يُكْرَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الصَّغِيرِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ قَرِيبٌ وَاحِدٌ هُوَ ذُو رَحِمٍ مُحَرِّمٍ مِنْهُ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ مَعَهُ عَدَدٌ مِنْ الْأَقَارِبِ كُلُّ وَاحِدٍ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الصَّغِيرِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَا أَبَوَيْنِ أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَإِنْ كَانَا أَبَوَيْنِ يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَا مِمَّنْ سِوَاهُمَا مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، فَإِمَّا أَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ مِنْ الصَّغِيرِ وَالْآخَرُ أَبْعَدَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ كَانَا فِي الْقُرْبِ مِنْهُ عَلَى السَّوَاءِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ لَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ الْأَبْعَدِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأَقْرَبِ تُغْنِي عَنْ شَفَقَةِ الْأَبْعَدِ فَلَمْ يَكُنْ التَّفْرِيقُ إضْرَارًا بِالصَّغِيرِ سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ قَرَابَةُ الْكَبِيرَيْنِ كَالْأَبِ مَعَ الْجَدِّ وَالْأُمِّ مَعَ الْجَدَّةِ أَوْ الْخَالَةِ أَوْ الْخَالِ أَوْ اخْتَلَفَتْ كَالْأُمِّ مَعَ الْعَمَّةِ أَوْ الْعَمِّ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا كَيْفَ مَا كَانَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ شَفَقَةٌ عَلَى الصَّغِيرِ وَتَزُولُ بِالتَّفْرِيقِ.
وَإِنْ كَانَ الْكَبِيرَانِ فِي الْقُرْبِ مِنْ الصَّغِيرِ شَرْعًا سَوَاءً يُنْظَرُ إنْ اتَّفَقَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمَا كَالْعَمَّتَيْنِ وَالْخَالَتَيْنِ وَالْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يُكْرَهَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الصَّغِيرَيْنِ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُكْرَهُ إذَا بَقِيَ مَعَ الصَّغِيرِ قَرِيبٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَفَقَةٌ عَلَى حِدَةٍ عَلَى الصَّغِيرِ فَلَا تَقُومُ شَفَقَةُ أَحَدِهِمَا مَقَامَ الْآخَرِ، وَكَذَا قَدْ يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ شَفَقَةٍ لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ فَكَانَ التَّفْرِيقُ إضْرَارًا بِتَفْوِيتِ شَفَقَتِهِ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلِ أَوْ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرِ فَيُكْرَهُ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ كَرَاهَةَ التَّفْرِيقِ لِلْإِضْرَارِ بِالصَّغِيرِ بِتَفْوِيتِ النَّظَرِ وَعِنْدَ اتِّحَادِ جِهَةِ الْقَرَابَةِ وَالتَّسَاوِي فِي الْقُرْبِ مِنْ الصَّغِيرِ كَانَ مَعْنَى النَّظَرِ حَاصِلًا بِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ جِهَةِ الْقَرَابَةِ تَخْتَلِفُ الشَّفَقَةُ فَيَحْصُلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَا يَحْصُلُ بِالْآخَرِ فَكَانَ التَّفْرِيقُ إضْرَارًا، وَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَ سِتَّةَ إخْوَةٍ أَوْ سِتَّةَ أَخَوَاتٍ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ كِبَارٌ وَثَلَاثَةٌ صِغَارٌ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ كُلِّ صَغِيرٍ مَعَ كُلِّ كَبِيرٍ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَ مَعَ الصَّغِيرِ أَبَوَانِ حُكْمًا بِأَنْ ادَّعَيَاهُ حَتَّى ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا ثُمَّ اجْتَمَعُوا فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُكْرَهَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا لِاتِّحَادِ جِهَةِ الْقَرَابَةِ، وَهِيَ قَرَابَةُ الْأُبُوَّةِ كَالْعَمَّيْنِ وَالْخَالَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ أَحَدُهُمَا حَقِيقَةً فَكَانَ الثَّابِتُ قَرَابَةَ أَحَدِهِمَا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا حَكَمْنَا بِثَبَاتِ نَسَبِهِ مِنْهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَةِ، وَلَكِنَّ الْأَبَ فِي الْحَقِيقَةِ أَحَدُهُمَا.
فَلَوْ بَاعَ أَحَدَهُمَا لَاحْتُمِلَ أَنَّهُ بَاعَ الْأَبَ فَيَتَحَقَّقُ التَّفْرِيقُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِلصَّغِيرِ أَبٌ وَأُمٌّ حَيْثُ يُكْرَهُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ قَرَابَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَحَقِّقَةٌ فَكَانَ الْبَيْعُ تَفْرِيقًا بَيْنَ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ بِيَقِينٍ فَيُكْرَهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ قَرَابَةِ الْكَبِيرَيْنِ كَالْعَمَّةِ مَعَ الْخَالَةِ وَالْعَمِّ مَعَ الْخَالِ وَالْأَخِ لِأَبٍ مَعَ الْأَخِ لِأُمٍّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ؛ لِأَنَّ مَنْ يُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأَبِ إلَى الصَّغِيرِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ، وَاَلَّذِي يُدْلِي إلَيْهِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ يَقُومُ مَقَامَ الْأُمِّ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَ الصَّغِيرِ أَبًا وَأُمًّا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ كَذَا هَذَا.
امْرَأَةٌ سُبِيَتْ وَفِي حِجْرِهَا بِنْتٌ صَغِيرَةٌ وَقَعَتَا فِي سَهْمِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَالْمَرْأَةُ تَزْعُمُ أَنَّهَا ابْنَتُهَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهَا بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ فِي كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ وَرَدَتْ فِي حَقِّ السَّبَايَا وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُ الصَّغِيرِ وَلَدَ الْمَسْبِيَّةِ إلَّا بِقَوْلِهَا: فَيَدُلُّ عَلَى قَبُولِ قَوْلِهَا فِي حَقِّ كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الدِّيَانَةِ، وَقَوْلُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الدِّيَانَاتِ مَقْبُولٌ خُصُوصًا فِيمَا يُسْلَكُ فِيهِ طَرِيقُ الِاحْتِيَاطِ وَلَوْ كَبِرَتْ الصَّغِيرَةُ فِي يَدِ السَّابِي وَقَدْ كَانَ وَطِئَ الْكَبِيرَةَ وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْ الْمَرْأَةِ الْمَسْبِيَّةِ إرْضَاعَ الصَّغِيرَةِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْرَبَ الْبِنْتَ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهَا مِنْهَا لِدَعْوَتِهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا بِنْتُهَا مِنْ النَّسَبِ أَوْ الرَّضَاعِ فَلَا يَقْرَبُهَا احْتِيَاطًا وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ مِنْ قُرْبَانِهَا فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الصَّغِيرَةُ فِي حِجْرِهَا وَقْتَ السَّبْيِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهَا عِنْدَ السَّبْيِ فَلَا دَلِيلَ عَلَى كَوْنِهَا وَلَدًا لَهَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا أَصْلًا.
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ مِنْ السَّبَايَا صَغِيرًا أَوْ صَغِيرَةً أَنَّهُ وَلَدُهُ قُبِلَ قَوْلُهُ: وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مِلْكٍ خَاصٍّ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الرَّجُلِ صَحِيحَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ وَقْتَ السَّبْيِ فِي يَدِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ دَعْوَةِ الْمَرْأَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ الْوَلَدَ مَعَهَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَهُوَ زَوْجُهَا وَصَدَّقَهَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا الزَّوْجِيَّةُ بِتَصَادُقِهِمَا وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُمَا، وَيُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ وَلَدُهُمَا بِإِقْرَارِهِمَا وَلَوْ ادَّعَى وَاحِدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ وَلَدًا صَغِيرًا مِنْ السَّبْيِ أَنَّهُ وَلَدُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ الْبَيْعِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَيَكُونُ وَلَدُهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَعَهُ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ كَانَ مُسْلِمًا وَلَا يَسْتَرِقُّ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الدَّاعِي وَلَكِنَّهُ يَسْتَرِقُّ؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ وَإِنْ صَحَّتْ فِي حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ وَاسْتَنَدَتْ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ لَكِنَّهَا لَمْ تَصِحَّ وَلَمْ تَسْتَنِدْ فِي حَقِّ الِاسْتِرْقَاقِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْغَانِمِينَ فَلَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ وَيَجُوزُ أَنْ يُصَدَّقَ الْإِنْسَانُ فِي إقْرَارِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ إذَا تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ كَمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ إنْسَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ صَحَّ الشِّرَاءُ وَعَتَقَ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَعْتِقَ عَلَيْهِ وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ بَائِعِهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهِ وَلِهَذَا نَظَائِرُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ:

وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ فَهُوَ التَّمْلِيكُ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ تَنْقَطِعُ بِهِ مَنْفَعَةُ الْأُنْسِ وَالشَّفَقَةِ، وَكَذَا الْقِسْمَةُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْغَنَائِمِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَخْلُو عَنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ خُصُوصًا فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَيَحْصُلُ بِهَا التَّفْرِيقُ فَيُكْرَهُ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْتِقَ أَحَدُهُمَا أَوْ يُكَاتِبَهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، بَلْ هُوَ إزَالَةُ الْمِلْكِ أَوْ إنْهَاؤُهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّفْرِيقُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ يُمْكِنُهُ الِاسْتِئْنَاسُ بِصَاحِبِهِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِعْتَاقُ تَفْرِيقًا وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ حُرٌّ يَدًا فَلَا تَنْقَطِعُ بِهَا مَنْفَعَةُ الْأُنْسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ تَفْرِيقًا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَلَئِنْ كَانَ تَفْرِيقًا فَيَقَعُ الْإِعْتَاقُ فَوْقَ ضَرَرِ التَّفْرِيقِ فَلَا يَكُونُ ضَرَرًا مَعْنًى وَلَوْ بَاعَ أَحَدَهُمَا نَسَمَةً لِلْعِتْقِ يُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُكْرَهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالَةِ الْمُشْتَرِي إنْجَازُ مَا وَعَدَ فَيَخْرُجُ التَّفْرِيقُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ضَرَرًا؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ نَفْعٌ أَعْظَمُ مِنْهُ وَهُوَ الْعِتْقُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ فِي الْبَيْعِ وَلَوْ كَانَ مَشْرُوطًا لَأَوْجَبَ فَسَادَ الْبَيْعِ فَبَقِيَ قَصْدُ الْإِعْتَاقِ وَتَنْفِيذُ هَذَا الْقَصْدِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فَبَقِيَ الْبَيْعُ تَفْرِيقًا فَيُكْرَهُ حَتَّى لَوْ كَانَ قَالَ الْمُشْتَرِي: إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، قَالُوا: لَا يُكْرَهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ بَعْدَ الشِّرَاءِ لَا مَحَالَةَ فَيَخْرُجُ الْبَيْعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ضَرَرًا.

.فَصْلٌ: صِفَةُ الْبَيْعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ:

وَأَمَّا صِفَةُ الْبَيْعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ أَنَّهُ جَائِزٌ أَمْ لَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: الْبَيْعُ جَائِزٌ مُفِيدٌ لِلْحُكْمِ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَالْبَائِعُ بِالتَّفْرِيقِ آثِمٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَفِي سَائِرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ جَائِزٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ فِي الْكُلِّ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ لِلنَّهْيِ عَنْ التَّفْرِيقِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى النَّهْيِ، وَالْبَيْعُ تَفْرِيقٌ فَكَانَ مَنْهِيًّا، وَالنَّهْيُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا عَلَى أَصْلِهِ فَأَبُو يُوسُفَ إنَّمَا خَصَّ الْبَيْعَ فِي الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ بِالْفَسَادِ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِتَغْلِيظِ الْوَعِيدِ بِالتَّفْرِيقِ فِيهِمْ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا، وَلَهُمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَنَحْوَهُ مِنْ نُصُوصِ الْبَيْعِ يَقْتَضِيَ شَرْعِيَّةَ الْبَيْعِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ فَمَنْ ادَّعَى التَّخْصِيصَ أَوْ التَّقْيِيدَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ غَيْرِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْإِضْرَارُ فَلَا يَخْرُجُ الْبَيْعُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا كَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى غَيْرِ الْبَيْعِ إمَّا حَمْلًا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ، وَإِمَّا لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَرِدُ عَمَّا عُرِفَ حُسْنُهُ عَقْلًا عَلَى مَا عُرِفَ.
(وَمِنْهَا) الْبَيْعُ وَقْتَ النِّدَاءِ وَهُوَ أَذَانُ الْجُمُعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} أَمَرَ بِتَرْكِ الْبَيْعِ عِنْدَ النِّدَاءِ نَهْيًا عَنْ الْبَيْعِ لَكِنْ لِغَيْرِهِ وَهُوَ تَرْكُ السَّعْيِ فَكَانَ الْبَيْعُ فِي ذَاتِهِ مَشْرُوعًا جَائِزًا لَكِنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ اتَّصَلَ بِهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَهُوَ تَرْكُ السَّعْيِ.
(وَمِنْهَا) بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ طَعَامٌ وَعَلَفٌ لَا يَبِيعُهُمَا إلَّا لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ بِثَمَنٍ غَالٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» وَلَوْ بَاعَ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْإِضْرَارُ بِأَهْلِ الْمِصْرِ فَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَهَذَا إذَا كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ بِأَنْ كَانَ أَهْلُهُ فِي قَحْطٍ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، فَإِنْ كَانُوا فِي خِصْبٍ وَسَعَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ.
(وَمِنْهَا) بَيْعُ مُتَلَقِّي السِّلَعِ وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يَسْمَعَ وَاحِدٌ خَبَرَ قُدُومِ قَافِلَةٍ بِمِيرَةٍ عَظِيمَةٍ فَيَتَلَقَّاهُمْ الرَّجُلُ وَيَشْتَرِي جَمِيعَ مَا مَعَهُمْ مِنْ الْمِيرَةِ وَيَدْخُلُ الْمِصْرَ فَيَبِيعُ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ الثَّمَنِ، وَهَذَا الشِّرَاءُ مَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَتَلَقَّوْا السِّلَعَ حَتَّى تُبْسَطَ الْأَسْوَاقُ»، وَهَذَا إذَا كَانَ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ بِأَنْ كَانَ أَهْلُهُ فِي جَدْبٍ وَقَحْطٍ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُمْ لَا بَأْسَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَفْسِيرُهُ هُوَ أَنْ يَتَلَقَّاهُمْ فَيَشْتَرِيَ مِنْهُمْ بِأَرْخَصَ مِنْ سِعْرِ الْبَلَدِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ سِعْرَ الْبَلَدِ وَهَذَا أَيْضًا مَكْرُوهٌ سَوَاءٌ تَضَرَّرَ بِهِ أَهْلُ الْبَلَدِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُمْ، وَالشِّرَاءُ جَائِزٌ فِي الصُّورَتَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَشْرُوعٌ فِي ذَاتِهِ وَالنَّهْيُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْإِضْرَارُ بِالْعَامَّةِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ وَتَغْرِيرُ أَصْحَابِ السِّلَعِ عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي.
(وَمِنْهَا) بَيْعُ الْمُسْتَامِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَهُوَ أَنْ يُسَاوِمَ الرَّجُلَانِ فَطَلَبَ الْبَائِعُ بِسِلْعَتِهِ ثَمَنًا وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ الثَّمَنِ فَجَاءَ مُشْتَرٍ آخَرُ وَدَخَلَ عَلَى سَوْمِ الْأَوَّلِ فَاشْتَرَاهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ بِذَلِكَ الثَّمَنِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ».
وَرُوِيَ: «لَا يَسُومُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ» وَالنَّهْيُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْإِيذَاءُ فَكَانَ نَفْسُ الْبَيْعِ مَشْرُوعًا فَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ، وَهَذَا إذَا جَنَحَ الْبَائِعُ لِلْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي طَلَبَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْنَحْ لَهُ فَلَا بَأْسَ لِلثَّانِي أَنْ يَشْتَرِيَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ اسْتِيَامًا عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ، وَلِانْعِدَامِ مَعْنَى الْإِيذَاءِ أَيْضًا، بَلْ هُوَ بَيْعُ مَنْ يَزِيدُ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَاعَ قَدَحًا وَحِلْسًا لَهُ بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ» وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَبِيعَ بَيْعًا مَكْرُوهًا، وَكَذَا فِي النِّكَاحِ إذَا خَطَبَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَرَكَنَ قَلْبُهَا إلَيْهِ يُكْرَهُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَخْطِبَهَا لِمَا رَوَيْنَا وَإِنْ لَمْ يَرْكُنْ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
(وَمِنْهَا) بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَفِي عَسَاكِرِهِمْ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ مِنْهُمْ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ، وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ السِّلَاحُ مِنْهُمْ كَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُعَدًّا لِلْقِتَالِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْإِعَانَةِ، وَنَظِيرُهُ بَيْعُ الْخَشَبِ الَّذِي يَصْلُحُ لِاِتِّخَاذِ الْمِزْمَارِ فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ كُرِهَ بَيْعُ الْمَزَامِيرِ.
(وَأَمَّا) مَا يُكْرَهُ مِمَّا يَتَّصِلُ بِالْبُيُوعِ.
.
(فَمِنْهَا) الِاحْتِكَارُ وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ الْكَلَامِ فِيهِ فِي بَابِ الْكَرَاهِيَةِ وَإِلْحَاقُهُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ أَوْلَى.
(وَمِنْهَا) النَّجْشُ وَهُوَ أَنْ يَمْدَحَ السِّلْعَةَ وَيَطْلُبَهَا بِثَمَنٍ ثُمَّ لَا يَشْتَرِيهِ بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ لِيُسْمِعَ غَيْرَهُ فَيَزِيدَ فِي ثَمَنِهِ وَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ النَّجْشِ»؛ وَلِأَنَّهُ احْتِيَالٌ لِلْإِضْرَارِ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي يَطْلُبُ السِّلْعَةَ مِنْ صَاحِبِهَا بِمِثْلِ ثَمَنِهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَطْلُبُهَا بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهَا فَنَجَشَ رَجُلٌ سِلْعَةً حَتَّى تَبْلُغَ إلَى ثَمَنِهَا فَهَذَا لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَإِنْ كَانَ النَّاجِشُ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.